ظهرت )الدراسات السردية( المتخصصة في النقد العربي الحديث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وشغل بها كثيرمن النقاد العرب بين رافض لها أو آخذ. وهذه الحقيقة التاريخية ينبغي ألا تطمس أمرين أساسيين في هذا الموضوع، أولهما أن عناية النقد بالآداب السردية قديمة في الثقافة العربية، وثانيهما أن الاضطراب لم يزل يعصف بالدراسات السردية التي لم تستقر فرضياتها الأساسية، ولا مفاهيمها، ولا طبيعة العلاقة بينها وبين الأدب الذي تحلله.
من الصحيح أن طريقة النظر إلى النصوص السردية تغيرت جزئيا، لكن ثلاثة عقود من الممارسات النقدية كان ينبغي أن تفضي إلى دراسات متماسكة تقدم رؤى مختلفة للآداب السردية ووظائفها، وتحدث تغييرا في الدرس الجامعي الذي لم يزل يئن تحت وطأة المفاهيم القديمة للنقد. وينبغي القول أيضا إنه لم تقبل نظريات النقد الحديثة بصورة كاملة في الأوساط الثقافية والجامعية، وذلك أمر يتصل بعدم تبني فكرة الحداثة في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ثمة دراسات سردية متفرقة، وتحليلات معمقة، لكن انغلاق مجتمعاتنا على نمط تقليدي من الفكر والعلاقات أدى إلى عدم اعتراف بأهمية هذه الجهود المتناثرة، بل هي تتعرض لمزاحمة خطيرة من الفكر التقليدي الرافض لكل ما هو جديد بدواع كثيرة.
انشطرت المواقف حول الدراسات السردية، فمن جهة أولى سعت تلك الدراسات إلى الانتقال بالنقد الأدبي من الانطباعات الشخصية، والتعليقات الخارجية، والأحكام الجاهزة، إلى تحليل الأبنية السردية، والأسلوبية، والدلالية، ثم تركيب النتائج التي تتوصل إليها في ضوء تصنيف دقيق لمكونات النصوص السردية. ومن جهة ثانية حامت الشكوك حول قدرتها على تحقيق وعودها المنهجية والتحليلية؛ لأن كثيرا منها وقع أسير الإبهام، والغموض، والتطبيق الحرفي للمقولات السردية دون الأخذ بالحسبان اختلاف السياقات الثقافية للنصوص الأدبية.
وحينما نروم وصف واقع )الدراسات السردية( في النقد العربي الحديث، فنحن بإزاء اختيارين، فإما أن نتعقب خطيا جهود النقاد المعاصرين بطريقة مدرسية، أو أن نتخطى ذلك ونستفيد من مكاسب تاريخ الأفكار الحديث، حيث تصبح الظاهرة المدروسة موضوعا لتحليل متنوع الأبعاد والمستويات. والاختيار بين هاتين الطريقتين هو اختيار بين رؤيتين وموقفين، فتبني معطيات تاريخ الأفكار الخطي سيدفع بفكرة الوصف دون القيمة، والأخذ بمكاسب تاريخ الأفكار الحديث سيدفع بفكرة التحليل والاستنطاق واستنتاج المعرفة إلى مدياتها القصوى ؛ ذلك أن علاقة النقد بالأدب ليست علاقة حيادية وشفافة، إنما هي علاقة تلازم وتفاعل، فهما يتحاوران ضمن نظام ثقافي موحد من الإرسال والتلقي. ولا أجد جدوى معرفية من الأخذ بالاختيار الأول، اختيار الوصف والمعاينة المجردة، إنما أدعو إلى توظيف الإمكانات المتاحة للاختيار الثاني، فذلك سيجعل من )الدراسات السردية( موضوعا لتحليل متشعب يستكشف واقعها، ومشكلاتها، ورهاناتها، وآفاق تطورها، ضمن سياق الثقافة العربية الحديثة.
2- المرجعيات حينما نبحث واقع )الدراسات السردية العربية( فليس من الحكمة تخطي المرجعية النقدية الحديثة، فالتطورات التي عرفتها نظرية الأدب في القرن العشرين جهزت )السردية( بكثير من الركائز الأساسية التي أصبحت من أركانها الأساسية. ومعلوم أن مصطلح )السردية Narratology( مرتبط بمصطلح أقدم وأشمل، هو )الشعرية Poetics(. والعلاقة بين )السردية( و)الشعرية( صحيحة في التصور العام لنظرية الأدب، إذ ما لبثت أن انفصلت الأنواع الأدبية بعضها عن بعض، واستقام لكل منها خصائصه الأدبية المميزة، فانبثقت حاجة منهجية ومعرفية لتوسيع مفهوم نظرية الأدب لتتمكن من شمول الأنواع